الأحد، 5 ديسمبر 2010

ثلاثة أيـام فقط


يـصعـد على درجات السلـم درجة درجة، يريد أن يـقـفـز، لكن هذا لا يـجوز، يـجـب أن يـظل محافظاً على المظهـر العام، يـنـظر حيناً إلى تلك الدرجات المغطاة بـتـلك السجادة الحمراء، و أحياناً أخرى ينظر أمامه، هو في أبهى صوره اليـوم، الشعـر مصفف بعناية فائقة، بدلة جديدة غالية الثمن، ... بل باهظة الثمن، حذاء لامع يـنـعكس عليه أضواء الكاميرات التي يأخذ حاميـليـها ألاف الصور له و التي ستـزيـن صحف الغـد.
حالة من الإكـتـئاب تـسيـطر عليـه، طوال حياته لم يحقق أي نوع من أنواع النجاح، في دراسته كان فاشلاً، بالكاد كان يـنـجح بعـد أن كان يستعين بمجهود بعض زملائه، عندما تخرج لم يـسعفه مجموعه الصغيـر بالإلتحاق بكلية ذات مستقبل جيد، فكان مصيره أحد المعاهد الخاصة الغير معروف فائدة حقيقة لها سوى نهب الكثير و الكثير من أموال الطلبة... أو أموال أولياء الأمور بمعنى أصح، مع ذلك تـخـرج بعد عناء، و أيضاً بـبعض المساعدات التي تلاقاها من زملائه.
رجع إلى المنزل يـنـظـر بشئ من الفخر إلى تلك الجائزة التي حصل عليها، تمنى كثيـراً لو كان أبواه على قيد الحياة في هذه اللحظة، حتى يـفـتخرا بما حققه من إنجاز، من كان يصدق أن ذلك الشاب الفاشل دراسياً و المتـنـقل بإستمرار من وظيفة لأخرى توجد به كل هذا الطاقة الإبداعية، طاقة جعلت منه صاحب أفضل عمل أدبي لهذا العاام، عمل إنتشر بين الأوساط الأدبية كإنتشار النار في الهشيم، الكل تكلم بإعجاب عن ذلك الكاتب الناشئ الذي فجر مفاجئة بكتابته التي تغوص في أعماق النفس البشرية، أعماق لم يقترب منها أحد.
بعد أن طرد من وظيـفتـه السابقة لعدم إلتزامه بمواعيد العمل و تكرار حضوره في وقت متأخر يعمل حالياً أميناً لأحد المكاتب العامة، وظيفة يمقتها من كل قلبه فهو لا يحب القراءة، و لم يكن يتخيل في يوم من الأيام أن تجبره الظروف على العمل وسط هذه الكمية المهولة من الكتـب التي لا يريد حتى أن يعلم عن ماذا تحتوي، لولا الظروف لكان قد رفض هذه الوظيفة، لكنه بعد وفاة والده لم يعد له هو و والدته أي باب رزق آخر، والده أنفق كل أمواله عليه حتى يكمل تعليمه، و جاء مرض أبيه في شهوره الأخيـرة ليقضي على الأخضر و اليابس فلم يـتـبـقى شيئ.
عـمله في المكتـبـة كان يـحتـوي على كثـيـر من الملل، و قليل من العمل، و في بعض الأحيان القراءة، في يوم طلب منه أن يـسجـل جميع أسماء الكتب الموجودة في المكتبة على ذلك الجهاز الجديد، فأخيراً واكبت المكتبة بعد مراحل التطور عندما تـقرر تسجيـل أسماء كل الكتب الموجوة بها على الكومبيوتر و من ثم توصيل الجهاز بشبكة تضم جميع المكاتب العامة الموجودة في جميع المحافظات، كخطوة أولى، الخطوة الثانية أنه سيتم تحويل هذه الكتب إلى كتب إلكترونية حتى يتمكن أي شخص من قراءة أي كتاب موجود في أي مكان، من ناحية رأى أن هذه العملية ستسليه و تضيع الكثير من الوقت الذي يمتلكه بالفعل، و من ناحية أخرى سيضطر للقراءة.

لم يعلمه أحد، و لم يلتحق بإحدى كليات الإعلام، كل ما في الأمر أن الموهبة الربانية هي التي فرضت نفسها عليه، و على خياله، و على حياته نفسها، أسلوبه السهل الممتـنـع أعجب الكثيرون، لم يكن يـبـحث عن شهرة أو مال أو أي مكسب شخصي، كل ما كان يبحث عنه هو ترتـيـب و تـنـظيـم و تفريغ لما يـدور في عـقـلـه من أفـكـار و إبـداعـات و مواقـف سجلتها عيناه و حفظتها ذاكرته، لم يهتم كثيراً إذا كانت كتاباته يقرأها أحد أم أنها تذهب أدراج الرياح، هو فقط يريد أن يعبر ما يدور بداخله.
تصفح الجريدة في لهفة، يتوقع أنه سيجد صورة له، ماحدث بالأمس لن يمر مرور الكرام، عشرات المصورين و آلاف الصور إلتـقـت له، وجدها أخيراً، صورة كبيرة له، أكبر مما كان يتصور، لم تكن بالألوان، كما كان يتصور، ترك الصورة و ذهب إلى العنوان قرأه متمنياً ألا يكون ما يقرأه حقيقة، " أجرء حرامي في التاريخ "، هذا هو العنوان الذي قرأته عيناه و نطقه لسانه و سمعه قلبه ليصرخ عقله في فزع، إنكشف أمره و ضاعت نشوة الإنتصار بعدما إستمتع بها لمدة ثلاثة أيام فقط، كانت هذه أسعد ثلاثة أيام في حياته، الآن فقط يحمد الله على ان أبويه قد ماتا، حتى لا يعيشا معه تلك اللحظات القاسية.
بينما كان يسجل أسماء الكتب على جهاز الكومبيوتر الجديد لفت إنتباهه عنواناً غريـبـاً لأحد الكتب، " كن مشهـوراً في دقائق "، لا يدري لماذا جذبه ذلك العنوان، و لماذا ترك عمله ليـبـدأ في القراءة، هو الذي يكره من يقولون أن هوايتهم القراءة وجد نفسه بدون مقدمات بدأ يلتهم أوراق ذلك الكتاب إلتهاماً كأنه متسول رأى طعاماً بعد ثلاثة أيـام من الجوع، بعد الإلتهام بدأ في التـنـفيـذ، و التـنـفيـذ هنا ليس الإبداع، إنما البحث عن ضحية تنطبق عليها تلك المواصفات، كان البحث مرهق لكن كانت النتيجة مرضية، ضحية مثالية يـمتـلك مدونة مليئة بما لذ و طاب من الأعمال الأدبـية المتـنـوعة، كان يقرأ بعض هذه الأعمال في عجالة و كانت مع ذلك تأسر قلبه، كل ما عليه الآن هو الإختـيار ... حسن الإختيار.
بعد فوزه بالجائزة بثلاثة أيام تمت دعوته لحضور مؤتمر صحفي بأحد الفنادق التي تحمل على كتفها سبعة نجوم، الهدف الرئيسي من ذلك المؤتمر أو تلك الندوة هو مناقشة كتابه الذي حقق أعلى مبيعات في زمن قياسي بالنسبة لكاتب شاب مجهول الهوية، رحب بذلك، فلا بأس من مزيد من الشهرة، بينما كان يناقش الحاضريـن خرج عليه شاب يسأله عن ذلك الكتاب، يستفسر عن كل كبيرة و صغيرة، نظر إلى عين ذلك الشاب و نظر الشاب إلى عينه نظرة تحمل كل معاني الصرامة، تعرفا على بعضهما البعض، فالأول هو صاحب المدونة و مبدع هذه الأفكار، و الثاني هو اللص الذي سرق بعض الأعمال و قدمها على أنها من إبداعه ليحصل بها على جائزة لم يكن يحلم أبداّ ان يلمسها، علم الحاضرين بهذه الحقيقة المفجعة، إنهال عليه الجميع بنظرات كالرصاص، و إنهال عليه المصورين بلقطات سريعة توضح إفترائه.


بقلم م / مصطفى الطبجي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق