السبت، 16 أكتوبر 2010

كنت أعرفه صغيراً

كنت أعرفه صغيراً

أكتوبر 2010

مر من أمامي و أنا جالس مع أحد أصدقائي القليـليـن في أحد الحدائق العامة نـتـباحث في أمور الدنيا، بالرغم من أني أكبر منه عمراً إلا أن مظهره يوحي بأنه أكبر مني بعقود كثيرة، فظهره المحني و قدماه التي بالكاد تتحمله و العصى التي يتكأ عليها و يداه المرتعشتان توحيان بهذا، ملامح وجهه توحي بأنه كان وسيماً فيما مضى، وسامة لم تستطع تلك التجاعيد و الإصابات و الندبات التي تملأ وجهه أن تخفيها كلياً، و إن كانت قد طمست بريقها، لاحظت في مشيته البطيئة الرتيبة أن قدمه اليسرى توجد بها إصابة بالغة، فهي بالكاد تتلامس مع الأرض، يرتدي معطفاً بالي لا أدري لونه بالتحديد من كثرة ما به من رقع و بقع، هممت أن أقوم من مكاني لأذهب إليه، لكني تراجعت، فلا يوجد عندي ما يمكن قوله.

إبريل 2008

واقـفاً على الرصيف، محني الظهر، لا ينظر للأعلى و كأنه مكسور العين، معطفه البالي يوضح حالته الإقتصادية الهشة، و يأكد أنه تخطى خط الفقر بمراحل عديدة ليصبح على الهامش، كان يبدو عليه الشرود، فهو لم يلمح تلك السيارة القادمة بسرعة و هو يعبر الطريق ببطء و كانه لم يعد يبالي، في المستشفى أخبروه أن إصابته خطيرة، و لأن حالته الصحية خطيرة و حالته المادية فقيرة فكان العلاج هو نص جبـيـرة و ربنا الشافي العافي، لذلك لم تصبح قدمه اليسرى كما كانت قبل الحادث، فلقد أصبحت عظامها هشة كما انها أصبحت أقصر من القدم اليمنى، ما باليد حيلة، كل ما إستطاع الحصول عليه خلاف العلاج الخاطئ هو عصاة يتوكأ عليها، عسى أن تكون بديلاً لقدمه التي ضاعت نتيجة إهمال ... أو كسل ... أو بلادة .... أو لا مبالاة.

سيـبتمبر2001

يركض بسرعة كبيرة كأنه عداء متمرس أو مخترق ضواحي في أحد الدورات الأولمبية، إذا نظرت إليه و هو يفادي الناس يميناً و يساراً ستعلم أنها ليست المرة الأولى التي يركض بهذه الطريقة، كأنه يعرف مسبقاً أماكن تواجدهم، متوقعاً لتحركاتهم، قبل أن تحكم عليه و على سبب ركضه يجب أن تلاحظ أنه لا يركض وحيداً، هناك ثلاثة أشخاص يركضون معه، أو الأصح يركضون خلفه، من النظرة الأولى ستعرف أنهم من الفاسدين أخلاقياً، محنكين إجرامياً، متحجرين قلبياً، أسلحتهم البيضاء تلمع في نور الشمس، الجميع يتحاشاهم حتى رجال الأمن، لأنه في النهاية و بعد كل شئ فإن من يركضون ورائه ليس سوى صعلوكاً آخر لن يضر البشرية في شئ إن مات أو قتل أو جرح، أمسكوا به بعد فترة ركض طويلة، لهاثهم يتقاطع مع كلماتهم الغاضبة المهددة و المنددة، الحق أنه كان شجاعاً و لكن كما يقال الكثرة دائماً ما تغلب الشجاعة، تكالبوا عليه و أصابوه بعدة طعنات في بطنه، و جرح في جبينه، واضح من الإصابات أنهم لم يكن ينون قتله، هم فقط يريدون زيادة جراحه و كأنها عملية ممتعة بالنسبة لهم.

مايو 1992

يجلس في الشرفة الضيقة بشقته الصغيرة في تلك الحارة المجهولة الإسم، تلك الشقة التي إستطاع بالكاد أن يوفـر ثمنها، فكل ما إستطاع أن يدخره في حياته وضعه في تلك الشقة آملاً أنها ستكون خير سند له في مواجهة تلك الحياة التي ترفض أن تعطيه وجهاً مبتسماً، يرشف من كوب الشاي رشفة ثم يضعه على سور الشرفة، لكنه يفاجأ بأن الكوب الوحيد الذي يمتلكه قد وقع على الأرض و إنكسر، قبل أن يستعجب أو يستغرب سمع صراخ الجيران من حوله و هم يقولون زلزال، نزل إلى ذلك الزقاق الضيق يركض كما تعود مع الراكضين، لا يعلم إلى أين يذهب أو من أين أتى، الكل يركض و يركض و يركض، هنا تذكر أن ترك باب الشقة مفتوحاً فرجع إليها خوفاً على ما فيها، رجع ركضاً و الجميع من حوله يركضون أيضاً، دخل الشقة، نظر إليها نظرة الوداع كأنه مدرك لما سيحدث لهذا البيت القديم، ترك مجهود عمره و إنصرف و لكن البيت القديم تهدم فوقه وكانه يأبى الفراق، إرتجاج في المخ و رعشة مستمرة في أطرافه هما محصلة ما جناه اليوم.

أكتوبر 1981

شاب في عمر الزهور، على مشارف الثلاثين من عمره، يحلم أحلاماً وردية لحياة يتمنى أن تكون سعيدة، عائد من عمله الذي يبدع فيه مع أنه كان لا يتمناه بأي حال من الأحوال، لكنه القدر، ملابسه المهندمة و حذائه اللامع يوحيان بأنه من عائلة مقتدرة، يحب المشي لأنه رياضة، لا يهم أنه يمر كل يوم على نفس الأماكن و نفس الأشخاص، هو يعتقد أنه بذلك تتكون لديه ألفة مع الاماكن قبل الأشخاص، فذلك عم حسنين البقال و هذا أستاذ صابر الترزي و ذلك صالون الحلاقة الذي دائماً ما يقص شعره فيه، أما هذه فهي السيدة أم فاطمة الجالسة أمام الكشك الخاص بها و الذي تصرف منه على أولادها الخمسة بعد أن هجرها زوجها، يسمع صوت إستغاثة، يلتفت ليجد أنسة واقعة على الرصيف و شخص ما يمسك بحقيبة يدها و يجري مبتعداً عنها، يجري مبتعداً نحوه، حاول إمساكه بكل قوة، لكن ذلك اللص عاجله بضربة كسرت فكه السفلي، حاول عرقلته مجدداً و نجح هذه المرة، لكن العرقلة أوقعت اللص أسفل أتوبيس نقل جماعي مسرع لا يوجد به فرامل، مات اللص و حكم على ذلك الشاب الشجاع بالحبس عام، ليطرد من عمله و تضيع أحلامه.

يونيو 1967

على أعتاب مرحلة تسمى بالمراهقة، منبهر بكل ما تقع عليه عيناه، اليوم يحلم بأنه سيكون طياراً لامعاً، بالأمس حلم أنه مهندس مشهور، غداً سيكون حلماً آخر، إمتد إنبهاره بالأفلام الأمريكية و ما تحتويه على حركات تسمى " أكشن "، فكانت من ضمن أحلامه أنه سيكون بطلاً عالمياً في جميع الرياضات، و إن كان هذا الحلم الوحيد الذي بدأ تنفيذه منذ الصغر، فلقد كان يقلد جميع الحركات التي يراها في الأفلام، في أول الأمر كان يقلدها في غرفته دون أن يراه أحد، ثم بدأ يقلدها أمام أبيه و أمه و هم ينظرون إليه ضاحكين مبتسمين، ثم بدأ يقلدها أما أصحابه و هم ينظرون إليه حاقدين مبهورين، ثم بدأ يطبقها على الجميع، بدأ يفتعل أي مشاجرة فقط لكي يطبق ما تعلمه و ما رأه ظناً منه أن هذه أقصر الطرق إلى البطولات، أو أنه الطريق الوحيد، الشكاوى زادت منه إلى أبيه، كان لابد من عقاب رادع، و الحرق بالملعقة في كل مرة كان في رأي أبيه هو أنسب الحلول بعد منع مشاهدة الأفلام الأمريكية، حرق بالملعقة و الأم تقف ساكتة موافقة و الطفل يصرخ و الدخان يتصاعد.

يوليو 1952

طفل يحبو على يديه و قدميه، يحاول إستكشاف العالم من حوله، و العالم هنا هو عبارة عن الشقة التي يعيش بها مع أبيه و أمه، هي شقة محدودة لكن بالنسبة له هي عالم واسع لا نهاية له، لا يترك درجاً إلا و يفتحه، لا يترك شيئاً إلا و يلمسه، لا يترك باباً إلا و يعبره، حنان و محبة والديه كانتا لا توصف، فهو البكر و سيكون الوحيد لا لشئ و لكن لأنه أمه لن تقدر على الحمل مرة أخرى، كأنه أراد أن يكون وحيداً حتى و هو جنين في رحم أمه، يحبو على الأرض ليصل إلى البوتاجاز، يحاول التمسك به ليقف على قدميه، تلاحظه الأم و تنظره إليه باسمة، قبل أن تكمل الإبتسامة التي كانت إلى حد ما صفراء ينسكب عليه الماء المغلي ليحرق جزء من يده اليمنى و صدره و جزء من فروة رأسه.

مايو 1948

عندما ولد تطلعت إليه، كان طفلاً جميلاً، عيناه متسعتان فيهما بريق و كأنهما مليئتان بالأسئلة و الفضول، حركاته البسيطة توحي بذكاء فطري يريد أن ينمو رغم أنف الجميع، إبتساماته التي كان يوزعها هنا و هناك تنتظر رداً عن كل سؤال يسأله، إذا نظرت إلى أعين و الديه ستجد الفرحة تملأهاو لكنها فرحة ينقصها شئ ما، الكل لاحظ ذلك و لكن لا أحد يعلق و لا أحد يتكلم، الكل بما فيهم أنا كنا نتمنى مستقبلاً مشرقا و نجاحاً باهراً لهذا الطفل، نجاحاً المفترض أنه كان نتيجة حتمية أو طبـيعية لنجاح والده.

بقلم م / مصطفى الطبجي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق