الاثنين، 25 أكتوبر 2010

فراغ

ملاحظته لم تكن صعبة، " شوفته بعيني محدش قالي "، فطوله الفارع مكن جميع ركاب عربة المترو الشبه ممتـلئة من رؤية يديه و هي تتحرك صعوداً و نزولاً متحسسة جسده، لأول وهلة سوف تعتقد أنه غريب الأطوار، لكنك لو إقتربت منه كما فعلت أنا سوف تعلم أنه يتحسس جيوبه الأمامية و الخلفية في تلك البدلة الصيفية التي يرتديها، لا لشئ، بل لأنه فقط يخشى من النشالين الذين يأخذون من وسائل المواصلات مقراً لهم، ليقتاتوا ما في الجيوب ليقتلوا ما في العقول، لم يهتم كثيراً بنظرات باقي الركاب إليه، أو بنظراتهم إلى تلك البدلة التي عفى عليها الدهر بعدما كانت فيما مضى رمزاً و علامة لكنها إنقرضت مع ما إنقرض من ديناصورات الماضي السحيق.
وصل إلى مكتبه في موعده المحدد، فهذه هي إحدى مميزات ذلك الإختراع المسمى بالمترو، مهما كانت الظروف يوصلك في الموعد " إلا لو ولع أو حد سرق القضبان "، جلس على مكتبه المترامي الأطراف، الساعة الآن الثامنة صباحاً، و أمامه ست ساعات حتى موعد الإنصراف كما تعود دوماً، بدأ يومه بقراءة الصحف الموجودة على سطح مكتبه، و لأنه في وظيفة حكومية فهو لا يقرأ إلا الصحف القومية، الصحف الأخرى ممنوع دخولها، ينتهي من قراءة جميع الصحف بعد مرور ساعة على الأكثر، جميع الأخبار متشابهة و جميع العناوين مكررة و الأحداث الهامة حلت محلها إعلانات القرى السياحية و المنتجعات الخيالية، الساعة الآن التاسعة صباحاً و مازال أمامه خمس ساعات من اللاشئ، منذ أن عينه قريبه الذي يحتل منصب مهم في وزارة الداخلية في تلك الوظيفة منذ أكثر من خمسة أعوام و هو لا يعلم بالتحديد متطلبات الوظيفة، كل ما يعلمه أنهم أجلسوه في غرفة واسعة و مكتب فخم و سجادة باهظة الثمن ..... و بس، كل يوم يأتي في تمام الثامنة صباحاً و ينصرف في الثانية ظهراً، على باب مكتبه " يافطة " مكتوب عليها " نائب رئيس الشؤون التجارية " مع العلم أنه لا يوجد رئيس لقسم الشؤون التجارية لأنه لا يوجد قسم بهذا الإسم، بينه و بين باقي الموظفين يحاول رفض فكرة أن هذه الوظيفة قد أخترعت خصيصاً من أجله، لكنه بينه و بين نفسه يعلم أنها الحقيقة، فماذا يفعل خريج كلية الأداب قسم مكتبات في قسم الشؤون التجارية؟ ... هذا إن وجد.
الساعة الآن التاسعة و النصف صباحاً، أخرج من جيبه جميع النقود التي كانت معه، قرر ترتـيـبها من الأكبر إلى الأصغر عسى أن يضيع هذا مزيداً من الوقت، أثناء ترتيب النقود توقف عند ورقة من فئة العشرون جنيهاً مكتوب عليها " الكبير عاوز العملية كلها تخلص النهاردة "، لا يدري لماذا لفتت إنتباهه هذه العبارة، لماذا توقف عندها كثيراً، هل هو الفراغ الذي يعيش فيه أم خياله الواسع، لا يدري، أياً كان السبب لا يهم، المهم أن تمر الأربع ساعات و نصف القادمة، نظر إلى العبارة مرة أخرى و قرأها من جديد، " الكبير عاوز العملية كلها تخلص النهاردة "، رجع بظهره إلى الوراء و بدأت الأسئلة تشرق في عقله كشروق الشمس في الصباح، من هو الكبير؟ عن أي عملية يتحدثون؟ ما نوع العملية؟ متى كان موعد العملية؟
يصعد السلم بهدوء، يحاول ألا يصدر صوتاً يمكن أن يوقظ أحد، طوله الفارع و جسده المتناسق و حركته الخفيفة الرشيقة يدلان على أنه شخص رياضي، أو شخص مدرب على أعلى مستوى، توقف قليلاً ليتأكد من أن أحداً لا يصعد على السلم ورائه أو أن أحداً ينزل، الجو ملائم تماماً، أكمل صعوده حتى وصل للدور الرابع، توجه مباشرة للشقة رقم 16، هو يعلم وجهته، لقد درسها كثيراً من قبل، وقف إلى جوار الباب ملتصقاً بالجدار، العرق يتصبب منه كماء المطر في شهر أمشير، ببطء و عينه على أبواب باقي الشقق نقر بإصبعه نقرة خفيفة على الجزء الخشبي من الباب و إلتصق بالجدار من جديد و عينه على أسفل باب الشقة، رغم الظلام إلا أنه إستطاع رؤية الورقة التي تخرج من أسفل الباب، إنحنى ليلتقطها ليفاجأ أنها ورقة من فئة العشرون جنيهاً، فتحها بحيرة ليجد أنها مكتوب عليها عبارة " الكبير عاوز العملية كلها تخلص النهاردة "، عبارة غامضة لكنه يعرف معناها، فالكبير هو أ/ أشرف الكبير مدرس الرياضيات في ذلك الدرس الخصوصي الذي يكره الذهاب إليه، فهو كالعادة " زوغ " من الدرس ليلعب كرة القدم مع أصدقائه، كرة القدم التي يعشقها و يمارسها ليل نهار، ما ينقذه دائماً هي جارته رشا التي تسكن في الدور الرابع و التي تخبره بما حدث في الدروس و تخبره أيضاً بالواجبات المطلوبة منه، و لأنه لا يريد إثارة المشاكل أو شك والده في أمره فهو لا يتحدث مع جارته تلك التي يعشقها في الهاتف بل يتسلل فجراً إلى شقتها و تكون هي في إنتظاره ملتصقة بباب الشقة تمرر له ورقة مكتوب بها الواجبات التي من المفترض أن يأتي للحصة التالية و هو منهيها، في تلك الليلة لم تجد أي ورقة أمامها، و لأنها خائفة من أن ينكشف أمرها هي الأخرى فلم تجد أمامها خياراً من أن تكتب المطلوب على الباقي من مصروفها، على أمل أن يرد لها في موعد الدرس القادم.
إنكب مرة أخرى على ذلك المكتب المترامي الأطراف و نظر إلى الساعة " الشيك " المعلقة على الجدار المغطى بورق الحائط " الشيك برضه "، إنها الآن الحادية عشر صباحاً، باقي من الزمن ثلاث ساعات، فتح درج مكتبه و أخرج " ريموت "  التكييف " آه عنده تكييف " ليظبط درجة الحرارة، نظر إلى ورقة العشرون جنيهاً و إبتسم قليلاً، فلقد أعجبته القصة التي تخيلها عن ذلك الشاب " اللي بيزوغ " من الدروس، لا يدري كيف طرأت إلى ذهنه بهذا الترتيب أو التنسيق، أخرج من درج آخر لمكتبه مجموعة أوراق و قلم لم يستعمل من قبل، فلقد قرر تدوين هذه القصية عسى أن تكون بداية لسلسلة من القصص الخيالية التي قد تسلي فراغه و وحدته.



بقلم م / مصطفى الطبجي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق