الثلاثاء، 2 نوفمبر 2010

الزمن العجيب

يرقد على وجهه بدون أن يبدي أي حركة، إذا رأيته ستعلم أنه ميت منذ فترة، كمية الأتربة تدل على أنه مر عليه يومين أو ثلاثة و هو على هذه الوضعية، ذلك المكان المقفر الكئيب المظلم، لا يدخله ضوء الشمس و لا نورالقمر، حتى الرائحة تعطي مزيداً من الظلام، كأن جميع معاني الأناقة قد فرت من هذا المكان بعيداً، عينه لا ترمش أبداً، و كيف ترمش و هي تـنـظر من ذلك المنظار المثبت فوق تلك البندقية التي يمسك بها بيديه و كأنها أصبحت قطعة منه، لقد تدرب على ذلك كثيراً فهو قناص ماهر، في إنتظار فريسته لا يتحرك من مكانه مهما مر عليه الوقت، بارع في إختيار أماكن لا يمكن أن تكتشف، .... النهاية.
النهاية هي الكلمة التي ظهرت على شاشة التلفاز لتعلن لذلك الشخص الجالس أمامها أن هذه الحلقة من ذلك المسلسل الجديد قد إنتهت، قام من مكانه و هو في أشد حالات إنفعاله، فالمسلسل يزداد تشويقاً و إثارة في كل حلقة، المشاهدة ممتعة خاصة عندما تمتلك تلفاز 42 بوصة بجودة عالية، نظر إلى اللفاز نفسه بإعجاب، لقد كلفه الكثيـر، لكن ثمنه لا يقارن بثمن تلك السيارة الجديدة التي إشتراها مؤخراً، هو فخور بما حققه من نجاحات حتى الآن، يعلم جيداً أن نجاحه هذا كانت له ضريبة عالية، فحتى يحقق ما حققه في عمله إبتعد عن أصدقائه و أسرته، حتى الفتاة التي كان يحلم بالزواج منها و كانت في يوم من الأيام خطيبته، و التي تحدت العالم من أجله لأنه كان فقيراً معدماً لم يعد يتذكرها، مجرد أطياف ماضي تتضئ في عقله لمدة ثواني معدودة ثم تختفي مرة أخرى لتتوه في إزدحام أفكاره العملية، هي أيضاً لم تعد تعرفه.
للسيارات الفارهة أصول في القيادة، خاصة إذا كان السائق شاباً " كتكوتاً " " أموراً " " فرفوراً " " عسولاً "، أولاً ظهر الكرسي يجب ألا يكون قائما بزاوية 90 درجة فهذي علامة على الخشونة، لكن الأفضل أن يكون مائلاً بزاوية 120 درجة و كأنك تقود و أنت نائم، ثانياً المساعات لا بد و أن تكون " براند " أي من أحد الأنواع الأصلية و طبعاً غالية الثمن جتى يظهر بوضوح صوت " الدوم " و " التيس " و هذا كله يحتاج إلى مشغل إسطوانات عالي الكفاءة، ثالثاً قائد السيارة لا بد من أن يخرج يده اليسرى من شباك السيارة و يجب التنبيه هنا على أنه لا يجب إخراج ذراعه الأيسر كاملاً فذلك ما يفعله سائقي التاكسي، إنما عليه إخراج نصف المسافة من مفصل الكوع إلى كف اليد، هو أيضاً كان ما زال شاباً، و وجد في هذه المواصفات رفاهية زائفة له، لا يعلم أنها تنقص من قدره في نظر كل زملائه في العمل، لكنه كان يرى هذه التظرات و يفسرها على أنها غيرة و حقد على ما وصل إليه.
إنتهى عصر القمصان و البناطيل اللذان كان يرتديهما على نفس ذلك الحذاء الذي إشتكى من كثرة الفتحات فيه، الآن لا يرتدي سوى البدل غالية الثمن، لكل بدلة حذاء خاص بها، و لكل حذاء شراب، و لكل شراب ساعة، و لكل ساعة نظارة شمسية، و هلما جرا...... الإجتهاد في العمل مبدأ خاص به لا يتجزأ عنه أبداً، ففي تمام الساعة الثامنة سوف تجده جالس على مكتبه يباشر عمله، لا يهتم كثيراً إن كان العمل قليلاً أم كثير، لا يهتم إن كان هو الوحيد الذي يعمل و الباقي يشاهد، عمله ينجزه على أكمل وجه، و ها هو أول المواطنين الذين يريدون تخليص بعد الإجراءات الروتينية قادم نحوه، يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم.
مكتبه هو مملكة خاصة به، كل ما فيه هو ملك خاص له، حتى تلك النقود التي يضعها المواطنون في درج مكتبه السفلي هي ملك خاص له، كل من أراد أن ينهي مصلحة له أو ينتهي من بعض الإجراءات أو يختم بعض الأوراق يعلم أن يمكن أن يذهب، مباشرة إلى الأستاذ رامي، على حسب الطلب يتم تحديد القيمة النقدية، الكل سواسية و النظام و نظام و كل حسب دوره، هي أيضاً مبادئ و قوانين وضعها لتنظيم العمل، و تسهيل الحصول على النقود، زملائه يعلمون أنه " يأكل مال النبي "، المواطنون يعلمون أنه يبتذهم و يستغل ضعفهم و حاجاتهم و مع ذلك يتركه الجميع، فليس من المضمون بعد الإبلاغ عنه أن يأتي شخص في هذا الزمن العجيب ليكون أشرف منه، من المحتمل أن الشخص الذي سيأتي بعده سيكون أجشع منه، و كأنهم يعاقبون على ما فعلوا.



بقلم م / مصطفى الطبجى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق