الشمس تشرق في هدوء رائع، كعادتها ترسل أشعتها الدافئة في خجل كأنها تخبر الجميع أنها قد أتت في موعدها، كالعادة بدون تأخير، كالعادة بمنتهى الرقة، كما تركت الجميع بالأمس وجدتهم اليوم، الرمال تتطاير بنعومة، أطراف أنامل مياة البحر مازالت تتلاعب ببعض حبات الرمال في جو يكسوه الود، الطيور محلقة عالياً، بعض رواد الشاطئ بدأوا يقبلون فرحين.
لم تكن شمس السماء أقصد، بل شمس أخرى، شمس تعيش بيننا، شمس تجدد الصبا في جسدك كلما إلتقت عيناك بعينيها، تلك الفتاة صاحبة عربة الآيس كريم كانت الشمس التي أقصدها، كانت الشمس التي يقبل عليها رواد الشاطئ فرحين بقدومها أخيراً فقط ليشتروا منها الآيس كريم.
لم تغير مكانها أبداً، وكيف تغيره و قد أصبح ملكاً لها، لم تشتريه و ليس معها عقد ملكية، هذه أمور شكلية، هي لا تعلم سوى أنها موجودة هنا، حتى المصطفين الذين يحضرون عاماً بعد عام أصبحوا يعرفون هذا المكان بها، بصاحبة عربة الآيس كريم.
اليوم لاحظت تطوراً غريباً، غرباء بدأوا ينتشرون في المكان، الدخل الوفير الذي كانت تجنيه أصبح مطمعاً لأصحاب العقول المريضة و النفوس الكريهة و القلوب الخبيثة، رويداً وريداً بدأوا يحيطون بها بعرباتهم، حاولوا و نجحوا بالفعل في إخفاءها عن أعين الجميع.
إختارت هذا المكان لبعده عن باقي بائعي الآيس كريم الذين أصبحوا منتشرين بعرباتهم على طول شاطئ البحر، إختارته لأنها لم تكن تريد الإحتكاك بهم، السبب الذي أعلنته لبعض زبائنها أن هؤلاء البائعيين يمكنهم بكل سهولة طردها من الشاطئ، هي شابة ضعيفة مكسورة الجناح كما يقولون، الحيوية التي بداخلها لن تسعفها أبداً في حالات المواجهة، ذلك بعد أن تخلى عنها من كانوا يعدونها بالحماية.
السبب الذي لم تعلنه لأحد و نجحت في إخفاءه جيداً داخل عباءتها السوداء الفضفاضة أنها لكي تنجح في جذب المصطفين إليها لابد من أن ترفع صوتها بالنداء، هي تخجل من هذا كما أنها لا تقوى على منافسة أصحاب الصوت الجهوري هؤلاء، فأصواتهم عالية مدوية و كأنهم ولدوا بها، لذلك كان هذا المكان البعيد الخالي هو أنسب إختيار.
بشاشة وجهها و جمالها الهادئ و طريقة كلامها الناعمة جعلت الكثير من المصطفين يصرون على الذهاب إليها، الذهاب إليها كان كأنه نزهة خفيفة لهم، فما أحلى السير على الرمال حافي القدمين تداعبك من الأسفل رمال مبللة و بين الحين و الآخر تصطدم بك المياة في حنان، و كأن الكل تغير ليتناسب مع رقة من تقف بالمكان.
إقبال و محبة لصاحبة العربة سببا لها الكثير من الفرحة، كما سبب الكثير من الحقد و الغل لأعداءها، المثل القديم يقول "عدوك إبن كارك"، بدأوا يفرضون عليها الإتاوات، بدأوا يشاركونها غصباً في أرباح عربتها بعد ان أخذوا منها مكانها الأصلي، إستنجدت بالجميع، و تجاهلها الكل، حتى المسؤل عن الشاطئ تصرف و كأن شيئاً لم يحدث، كل ما حصلت عليه هو تعاطف بعض المصطفين، و ليس جميعهم.
ضاع منها مكانها، ثم ضاعت عربتها، و مع الوقت بدأ الجميع ينسى إسمها، ثم ينسى شكلها، بدأوا يعلمون المكان بأسماء أخرى، أسماء غريبة لا نعلم أي عقل صهيوني إبتكرها.
بقلم م / مصطفى الطبجي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق